الى الجنوب من مدينة جنين في شمال الضفة الغربية وعلى بعد ثلاثة أميال منها تقع بلدة قباطية ,ترتفع ما بين مئتين إلى خمسمائة متر عن سطح البحر بمناخ متوسطي معتاد ,تحتل بيوتها بضعة جبال متوسطة الارتفاع وتمتد كذلك إلى سهولها ووديانها القريبة ..يخترقها واد تفيض مياهه شتاء في زحفه نحو الساحل الفلسطيني شوقا للبحرالمتوسط رغم أنف الخط الأخضر الذي يقسم فلسطين إلى قسمين بالنظر إلى عمر احتلالها...تغطي شجرة الزيتون معظم جبالها وهضابها وينشغل كثير من أهلها بالزراعة المروية صيفا والدفيئات الزراعية خاصة في الشتاء ..لها سهل خصب واسع في غربها وآخر صغير المساحة في شرقها ..وقد تمكن أهلها من حفر عشرات الآبار لارتوازية بحثا عن ماء لري مزروعاتهم خلال السنوات العشر الأخيرة..... تقول بعض الدراسات إن قباطية من أغنى القرى انتاجا واعتمادا على الذات على مستوى الوطن العربي كله(كبلدة صغيرة) ..ذلك أنه إضافة لما ذكرنا حول سهولها وزيتونها ومائها ...ففيها الذهب الأبيض ...وأعني مقالع الحجارة التي تستخرج من الارض وتشحن الى مصانع خاصة لتشكيلها بما يناسب بناء البيوت وغيرها ..وهو ميدان يشغل آلاف العمال من قباطية وغيرها من البلدات والقرى المحيطة..وقد اعتادت قباطية تصدير حجارتها الى الاردن ودول الخليج وغيرها منذ سنوات طويلة .وفي قباطية حركة تجارية نشطة ..اذ بدأت تنافس مدينة جنين في السنوات الاخيرة مع توجه التجار لاحياء تجارتهم فيها .
تقول كتب التاريخ ان قباطية مأخوذة من الفعل (قمط ) أي شد الحبل على الناقة ...فهي تقع على الطريق المتوسط المخترق لأواسط فلسطين الذي كانت تسلكه القوافل التجارية من الشام الى مصر وكانت محطة استراحة للقوافل ...ينزل فيها التجار يريحون جمالهم وخيولهم..يشربون من مائها ويستزيدون من خيرها ثم (يقمطون )بضاعتهم على جمالهم ..لذلك سميت (قماطية )أي مكان القمط ..ثم حرف الاسم الى قباطية وهذه أشهر الروايات...وتتحدث بعض المصادر عن أن قباطية كانت سكنى سيدنا يعقوب عليه السلام ,وهناك بئر مهجور ومشهور يقال له يئر (الحفيرة)يعتقد أنه جب يوسف الوارد في القرآن الكريم ,ان موقع قباطية وعلاقتها بالتجارة بين مصر والشام يرجح هذه الرواية.............يسكن الآن في قباطية أكثر من عشرين ألف فلسطيني ,70% منهم دون سن الثلاثين .
تميزت على مدى الاحتلال البريطاني والإسرائيلي لفلسطين بروح المبادرة الوطنية والسبق في اجتراح أحداث سجلها لها التاريخ ..منها انطلق الفدائي الأول الذي أطلق النار على الحاكم البريطاني (موفت )فأرداه قتيلا في مدينة الناصرة (على ما أرجح) ومنها انطلق فدائي آخر أطلق النار على المندوب البريطاني في القدس ..وله نظم ابراهيم طوقان قصيدة الفدائي التي سمعناها مغناة على شاشات الفضائيات في مقدمة مسلسل( التغريبة الفلسطينية) والذي يعرض منذ سنتين ...زارها الشيخ القسام أياما قليلة قبل استشهاده، حيث أقام فيها بنية جهادية قارعت المحتل البريطاني وزودت خلايا المجاهدين بالرجال والعتاد...شكلت بعد سقوط فلسطين عام 1948 خط الدفاع الثاني عن محافظة جنين خاصة وشمال الضفة الغربية عامة ..في سهولها وعلى تخومها دارت معارك عنيفة عام 48 بين الجيش العراقي الذي جاء مدافعا عن فلسطين وداعما لثوارها..والذي لولاه لسقطت جنين منذ ذلك الوقت وأصبحت جزءا من الارض المحتلة عام 48 ..وما زالت أضرحة عشرات الشهداء مسجاة في مقبرة جماعية على مدخلها الشمالي ...وقد حباني الله بالسكن على بعد عشرات الأمتار عن هذه الاضرحة لأستشرف من بطولاتهم تاريخ أمتنا المجيد ووقفة العراق الى جانب شعبنا ..
أقام ياسر عرفات في جبالها ومخابئها أشهرا عدة خلال تسلله الى الضفة الغربية بعد الاحتلال الإسرائيلي ليشكل نواة ثورة نشطت فيما بعد ...وقد ذكّر أبو عمار بذلك على الملأ في زيارته الشهيرة لمدينة جنين سنة 1995حيث قال (أنا ابن جنين القسام .ومن يحتاج تأكيدا لذلك فليسأل بساتين الزيتون في قباطية).عاشت قباطية سنوات الاحتلال العشرين الأولى بحلوها ومرها وتطورت اقتصاديا بفعل تجارة وتصدير الحجر منها ..الى أن جاءت الانتفاضة الأولى ...انتفاضة الحجارة..فاعتلت صهوتها منذ انطلاق شرارتها ..وأبت الا أن تكون مبادرة مجترحة لكل جديد اذ لم يمض شهران على انطلاق الانتفاضة حتى تمكنت جماهير غفيرة من البلدة من قتل أحد كبار العملاء والذي كان يعتبر رجل (الشين بيت )الاول في الشمال..وقد تعرضت بعدها لعقوبات جماعية اذ هدمت منازل وأعتقل المئات من ابنائها وحكموا احكاما عالية وطال الحصار عليها أشهرا عديدة .....لم تهدأ الثورة فيها وكلما كانت الانتفاضة تخمد قليلا ويستبشر اليهود بذلك خيرا ..كان ياسر عرفات يرد (أنا أتحداهم بقباطية وجباليا)...لتوقد نارها من جديد .
من قباطية انطلق العمل العسكري مع بداية عسكرة الانتفاضة الاولى اذ تشكلت مجموعات (الفهود السود) الذين لاحقوا العملاء وقاوموا المحتلين قبل أن تمتد الفكرة الى عموم البلاد ....كذلك من قباطية انطلقت أول عملية استشهادية بعد مجزرة الحرم الابراهيمي في الخليل نفذها الشهيد رائد زكارنة في العفولة بتوجيه واعداد من قبل يحيى عياش الذي زار البلدة من أجل تلك العملية...ثم عممت التجربة في الوطن كله واليوم ..وفي ظل انتفاضة الاقصى لا تزال قباطية قلعة الاستشهاديين الذين ما أن يشبوا عن الطوق ويتركوا مقاعد الدراسة التي كنا نعلمهم عليها بالامس حتى نرى صورهم ووصاياهم تملا الابصار والافئدة ..عشرات من الشهداء قضوا خلال هذه الانتفاضة ..وعشرات من المطاردين المسلحين لا زالوا يدافعون عن حواري قباطية كل ليلة في وجه عدو يكرر الاقتحام ولا يراعي لرمضان الفضيل حرمة
الجمعة 22 مايو 2009, 4:45 am
